صعدت الى حافلة مكناس وأنا أحدق في الوجوه كما هي عادتي و الوجوه تحدق في كذلك، محفظتي قد توحي للمسافرين أنني بائع
الحلوى العجيبة أو المرهم القادم من بنغلاديش الذي يشفي من كل داء..اتخذت مكانا لي في المنتصف و أنا أسترد أنفاسي و أرتب أفكاري، مرت دقائق و أنا أتجول في رأسي و في معارك السياسة الخبيثة.. من هو
جالس بجانبي يستمتع بموسيقاه الهاتفية و أنا أحس بها كمثل الرجم في أذني و أوطد نفسي على الصبر مسافة الرحلة من الرباط الى مكناس..
كان ثمة كعبين قادمين من باب الحافلة الذي يوجد في الأسفل، و حذاء أحمر و رجلين صغيرتين
تصعدان من الأدرج .. عرفت فيها صفة البهاء من طريقة قدومها.. وضعت يدها البيضاء على جانب الممر تساعد نفسها على
الصعود وتغنجت بفائض الأنوثة الذي يتعبها، فاكتمل عندي اليقين أن الأنثى عصف رباني مهول يتربص بمحبي الجمال. بعد حين عندما اكتمل تجليها و نظرت الى قدها و اكتمالاتها و استداراتها تمنيت
لو أن المكان الذي بجانبي فارغ فأدعوها أن أكون بجانب أنوثتها، لكنها اتخذت مكانها في زوج الكراسي التي أمامي، كنت لازلت أستطيع رؤية يدها الجميلة ترتفع الى خصلات شعرها لكي تحبسها وراء أذنها، شاهدت
الدهان الوردي الذي طلت به أظافرها، و في نفس الوقت كنت أشاهد شفتيها الرطبتين، و قد غطت عينيها بنظارات كبيرة قاتمة و أخذت تكلم البغل الذي جلس بجانبها..
كان من جاء معها يودعها قد قبلها بسرعة قبلة وجنية تقول لنا إنهما عشيقين، ثم هبط من الحافلة مسرعا دون أن يلتفت
كما لو أنه يتخلص منها، و لما دارت عجلات الحافلة و أصبح العالم يتحرك من وراء الزجاج شاهدتها تخرج الأوراق النقدية بمختلف الألوان، من جيوب سروالها و من بين نهديها ، ثم دست الحصيلة بطمانينة أنثوية
داخل حقيبتها اليدوية..
أخرجت حاسوبي الصغير، ثم استطلعت ما كتبه الأصدقاء الفيسبوكيين للحظات، قبل أن يبدء الوميض الأحمر يقول لي بطاريتي
توشك على النفاذ، لعنت الآلهة في ضميري، ثم أعدت الحاسوب الى محفظتي و أخرجت كتابا تستعصي علي قرائته منذ شهور.. هناك بعض الأمكنة تساعد على هضم الكتب الثقيلة ،مثل المرحاض في الزمن الخرائي، أو
الحافلة في زمن الذات المتنقلة في المكان..
صاح المسافرون و احتجوا على السائق لأن الحافلة لم تبرح الرباط منذ ساعة، و المساعد منشغل دون اهتمام بالصياح بملإ
الحافلة و اصطياد المسافرين من كل مكان. عندما أتعب من القراءة أرفع رأسي ثم أترك محيا الجميلة التي أمامي يهفو بي كموجة دافئة، كنت أقدر كمال بهائها ووجهها الملائكي الذي يتحرك أمام ناظري بالعرض
البطيء هي طريقتي في مشاهدة العالم..
كانت الجميلة قد انهمكت في حديث ودي مع السافل الذي بجانبها، و عرفت فيها سحر النساء و طاقتهن الأخطبوطية عندما
شاهدت السافل يرفع عقيرته هو الآخر كالبغل محتجا على السائق و مساعده، وفي نظرات عيتيها الحالمتين استطعت مشاهدة الشغف الأنوثي بالإنتصار، وفرح البهاء الكاسح الذي اعتمل في داخلها وهي ترى تأثير
جمالها القادر على جعل أحدهم يستعرض الفحولة المثيرة للشفقة..
استرقت النظر أيضا الى ما وراء الزجاج من أرض الفلاحة المترامية، مدى فيه السلام الزراعي بلون التربة السمراء، و
بين حين و آخر تظهر و تختفي جرارات تقلب الأرض، و طيور البقر تتطاير هنا و هناك بيضاء تحتفل بالدود القادم من باطن التراب..أرض فلاحية تشهر فرحتها بما يخلفه المطر من ماء يجعلها متأهبة للعطاء..شجيرات
الزيتون متراصة تهرب الى الخلف مسرعة كفيلق عسكري للمشاة ذاهب للمعركة، و في بعيد المدى السماء شاسعة زرقاء تتحرك فيها بقايا سحابات منهكة، بدت لي السماء جديرة بالإحترام..
واصلت القراءة، و في لحظات معينة كنت أقرر التوقف عندما أكتشف أن لحظات المتعة العارمة تهرب مني في هذا
المكان الإصطناعي، لأنني غالبا ما أمارس شهوة القراءة وحيدا تماما كالمضاجعة، حيث يمكنني أن أرسل عواصف الضحك، و اللعنات، و أذرف الدموع دون خجل من نفسي..
مساعد السائق بعد أن أنهى جولة المراقبة جلس قرب أحد المسافرين الذي يبدو أنه على سابق معرفة به، كانا يتحادثان
بشغف و هما يتبادلا أوراق صغيرة..تحدثا كثيرا عن الخيول و الأرقام و أوراق اليانصيب، و ضجا و هما يتحدثان عن المؤامرات..انسحبت من الرواية ثم أخذت أرهف السمع للعالم السحري ليانصيب الخيول..عندما
اكتشف مساعد السائق أن حديثهما أصبح محط اهتمام من هم حوله رفع منسوب كلامه، و صار واضحا لنا أنه حكواتي ماهر حتى و هو لا يهتم بوجودنا و ينظر فقط الى صديقه، و يحكي له و لنا قصص الربح الوفير و
الملايين التي تنتظر من يبتسم له الحظ الرباني المكتوب على حوافر الخيل اللاهثة..
حكى لنا عن لعين أضاع ملايين كثيرة تكفي لشراء فيلات فسيحة بحدائق التفاح و طيور العندليب، و شراء سيارات فارهة، و
فتح حساب بنكي ثقيل يكفي لمضاجعة أجمل العاهرات مدة مائة سنة كاملة، لكن اللعين نسي ببلاهة أن يقدم ورقته في الموعد المحدد ... و لعين أخر لاحقته دعوات أمه بالسخط لأنه أخطأ موعده مع السعادة و
لبس سرواله ذو الجيب المثقوب ذلك اليوم، فهبت بالورقة الرابحة ريح الخريف تحت أقدام المارة المساكين..
عصابة ماكرة انتظرت أحد الرابحين حتى تأكدت أن الأرقام الستة التي فاز بها صاحب الجلباب النتن مدسوسة في قبه، فقامت
باختطافه و هو في طاكسي، لم تكن سوى سيارة مسروقة من طرف فرد من العصابة، صاحب الفوز العظيم اكتشفه راعي أغنام في مجرى مائي ممزق الأحشاء و جلبابه سليم الا من قبه الذي احتز بمدية
لامعة..
منذ زمان كنت لا أعرف سر ذلك الإنخراط الروحاني للاعبي "التيرسي" في مهماتهم المحاطة بالجلال و الإكرام.. و
في مرات كثيرة كنت أدخل الى مقاهيهم لكنني كنت أخرج منها مهزوما في لحظات، لأنني كنت أحاصر بالنظرات المتوجسة من غريب لا تظهر عليه إمارات الأرقام.. كنت أعرف فداحة تلك الهواية عندما أقارن بين ما
ينفقون من المال و ثيابهم المهلهلة ، و نظراتهم الزائغة التي أتعبها الإنتظار، و أحاديثهم التي تشبه همس المرضى في المستشفيات..
في لحظة معينة داهمني رعب غريب جعلني أنتبه أنني غصت بلا نهاية في حكايات مساعد السائق عن تقنيات اللعب، و أنواع
الخيول، و حيل المنظمين، و الرشاوى المقدمة الى الفرسان ، و الإستعدادات الطويلة التي يبذلها لاعب يانصيب قديم، و تحرياته بالتيلفون بين أصدقائه المهووسين مثله و معارفه البارعين في الحظ و النحس، قبل
أن يقرر اللاعب الماهر في الأخير، و فق طقوس تشبه الإبتهال، أن يكتب أرقامه و يودع سلامه الداخلي بين حوافر ترفس الأرض، يكون القدر بعدها مكلفا أن يضعها في ممرات السعادة الأبدية، ثم بعد إيداع
الأرقام في شباك اليانصيب، يأتي الإنتظار القاسي الطويل الى حين أن ترفع الأرقام الرابحة في لوحة الإعلانات.. تذكرت خاشعا انتظارات يوم الحساب..
واصلت الإستماع و زاد عجبي و رعبي من هؤلاء اللاعبين الروحانيين.. تذكرت لعبة الروليت الروسية.. الحياة في آخر مطاف
هي لعبة فيها كثير من الحظ، و كثير من الإخفاق، و كثير من السعادات التي لا يهم أن تأتي، بل مهم أن نتمتع بانتظارها في عذاب..
رشيد عنتيد
12.11.2011
