في المنطق البسيط تنعكس الآخرة على الدنيا بشكل دائم، بمعنى أن وجود الآخرة يبقى خاضعا للإختيار الإيماني في حين الوجود الدنيوي هو وجود حتمي لا يحتاج الى الإيمان فهو موجود بالفعل بينما الآخرة موجودة بالإيمان . لذلك حتى ازدواجية الجنة و النار يجب أن تكون انعكاسا صادقا للمشيئة الارادية للخلق التي يتحمل الله وحده مسؤوليتها تحت طائلة الإشهاد الوجودي : " ألست بربكم، قالوا بلى و نحن على ذلك من الشاهدين "..
لتحرير الدين يجب التحرر من هاجس الهداية و البحث المضني عن الخلاص الذي يثقل كاهل المؤمنين بالرغبة في حشر الجميع في النعيم، فالجنة ليست سوى استثناء من القاعدة العامة رغم ما تمثله من إغراء، لإنها المثال الذي لا يتحقق الا بالمحاكاة العاطفية، أما القاعدة فهي النار و جهنم باعتبار أن الألم و المعاناة هي انعكاس لمجهود الخلق و الخليقة، ألم يسترح الله بعض أن قضى ستة أيام يكابد مهمات الخلق ؟
" إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء"
مفاهيم الجنة و النار ما هي الا مجازات لحالات وجودية الهدف منها خلق انعكاس واقعي في الحياة الدنيا، فالأديان لم تأت لتنظم الولوجيات الى نعيم الآخرة كما رسخ ذلك الفكر المتخلف الموروث من الانحطاط السياسي، و لكن جاءت لتنظم الحياة الدنيوية بمقياس مجازي في زمن مجازي هو الآخرة..
إذا كنت تعتقد أن الله يكوي بالنار كأي حاقد، و يغري بالأكل و اللذة كأي ماكر فإنك متواطيء بغرائزك مع التصور البشري للإله السياسي الذي خلقة البشر المعذب بسؤال الموت المتعب بالإنتظار..
مفاهيم النار و جهنم هي أيضا انعكاس أخروي للحرية الدنيوية بما تعطيه للإنسان من إمكانية الكفر دون أن يعني ذلك الخروج من رحمة الله، فحرية الخطيئة هي حرية أسسها الشيطان صلى الله عليه و سلم و استمدها من عبادته و ترقيه و صفته الملائمكية التي اكتسبها بالمعاناة..
إن الإيمان بالله مصطلح تحريفي كان قصده توقيف العقل عن التمرد و الإكتفاء بالاتباع عن طريق الانبهار، الله باعتبار تعاليه و تجليه ككمال حقيقي يوجد بالمطلق خارج ثنائية الخير و الشر.. لذلك يمكن التعاطف مع الفكرة الالحادية رغم أنها تتوقف في منتصف الطريق كي تقول بكل بساطة أن الله غير موجود، و هي تلتقي بذلك مع استراحة المؤمن من مهام العقل عن طريق السذاجة الغيبية. إن الله لا يمكن أن يتورط في فعل الجزاء و العقاب لأن ذلك ينقض عنه صفة الحياد و العدالة ..
" لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفؤا أحد "..
منهجيا ، تطوير الفكر الديني لا يمكن أن يتم من داخل المنظومة بفعل استحالة الحياد، و لذلك يبدو جذابا استعادة المنهج الاستشراقي في الهجوم على النصوص و الصبر على المنهجية الهيرمنيوطيقية التي تنزع عن النص المقدس سياقه القداسي دون أن تنفي مصدره الالهي..
فالنص الآلهي الخالص غير موجود، و هو فضلا عن ذلك مجرد وهم يحدث حالة عاطفية مبهمة تسمى الإيمان كاستسلام نهائي يعي عائق الزمن أمام إلحاحية قلق السؤال. النص الالهي الخاص محصور في العلم الخاص لله بمنطوق الآية " و يعلم ما لا تعلمون"، ، بينما النص الالهي العام باعتباره نصا تشاركيا بين الله و الإنسان فهو مضمون الوحي الذي يمتلك فيه الإنسان سلطة التأويل و التفسير ،و يكون الإنسان متساويا مع الله من حيث شرعية التلقي أو كما قال المعتزلة : القرآن مخلوق.
إن تورط الإيمان في التفكير ينتج لنا الظاهرة الدينية كتصور جامد لعلاقة جدلية بين الله و الإنسان، لأن التفكير الحر المتج للمعرفة يأتي من خارج البنية عن طريق القطائع الإبستيمولوجية ، و هي وسيلة لا يمكن أن يكون لها مقابل في الظاهرة الدينية دون إعادة الإعتبار للكفر، و هذا ما يفسر المكانة الخاصة لجيل الصحابة باعتبارهم جيل الكفار الذين مارسو فعل التفكير المؤدي للإيمان، بينما فشلت الأجيال اللاحقة في الإستمرار على منهج التفكير الحر بسبب انعدام إمكانية الكفر لأسباب سياسية فرضتها تشكل دولة المسلمين.
لذلك فالدين لا علاقة له بالإيمان، فالدين فهم بشري سياسي، و الإيمان حالة فردية يحتل فيها الكفر مكانة مرموقة كحالة مسائلة أخلاقية دائمة : " لا يزني أحدكم و هو مؤمن "..و إذا أمكن استعارة الجدلية الماركسية في الإقتصاد يمكن القول أن الإيمان نواته الكفر، ذلك أن التوبة مفتوحة دائما لتحقيق فعل الكفر المؤدي الى الإيمان و هو منهج طبيعي يعتمد الهدم و البناء..
لقد خاف الفقهاء من الكفر لأسباب سياسية و تاريخية تعود بالأساس للسلوك السياسي الذي مهد له الرسول عندما تجاوزته أحداث توسع الدولة كان سببه المباشر ضيق الوقت لمصالحة النص مع الواقع و حاجة الدولة الى القهر ، لذلك نتسائل متى ستعرف حركات الإسلام السياسي أنها تنفخ في قربة مثقوبة، ربما تعرف ذلك و عائقها السياسي يمنعها من الكشف عن القلق الدفين و الاحتباس الحراري القادم من عمق زمن التخلف ..
_________________
رشيد عنتيد
05 فبراير 2013