المتطلبات السياسية للمرحلة الراهنة يجب أن تستفيد من الظرف الدولي الملائم، الذي يعطي لأطراف المعادلة السياسية الشرط المحايد للبدء في عملية تحول جديدة، و يعطى للجميع الفرصة لحوار سياسي متحرر من نفسية التنازل و الهزيمة. فمقتضيات اللعب السياسي، بما تفرضه حسابات الحذر وعدم الرغبة في الخسارة، كانت تملي على كل طرف أن يؤجل رغبته في التفاوض عن طريق إيجاد المبررات بعدم توفر شروط النضج و الجاهزية، بقصد تمديد الراهن و تحيينه بشروط التأجيل مع احتفاظ كل طرف بامتيازاته و مواقعه
الظرف الخارجي مهم جدا في عمليات التحول السياسي في المغرب: الإستعمار، المسيرة الخضراء، وفاة الحسن الثاني و مجيء ملك جديد، كانت عوامل حاسمة في تحريك المياه الراكدة و دخول الأطراف في اللعب المباشر. الثورات في تونس و مصر و نجاحها أعطت هذا الشرط النفسي الذي نحتاجه..
عندما كان الجميع يتفاعل في إطار ما أفرزته تجربة التناوب من إعادة توزيع الأدوار، و الإنتكاسات التي رافقت ظهور الخطر الظلامي و ردود الأفعال المتنوعة التي رافقته، كان الجميع يراهن على الحدث الداخلي الذي من الممكن أن يحرر المغرب من حالة الجمود التي بدأ يدخل فيها، لكن في غفلة من الجميع، الحدث جاء من الخارج من شباب عالمي أعلن القطيعة على الجميع و بعثر أوراق الجميع
طبيعي أن التفاوض الجديد و النقاش الحالي سيهب دفعة واحدة بجميع عناوينه، و بالنظر الى ضغط الزمن و رغبة كل الاطراف في الإنتصار بالضربة القاضية ، يقوم الجميع بإخراج الأسلحة الثقيلة منذ اللحظة الأولى، بما في ذلك الدولة، التي لم تضيع الوقت و اختارت إحراج الطرف الآخر بطرح التعديل الدستوري و القيام بخطوات متسارعة تسلب أدوات الضغط التي قد تستعمل ضدها ..
الأحزاب و التنظيمات التي فقدت رصيدها و ارتباطها مع الشارع اعتبرتها الفرصة المواتية لتصفية حساباتها القديمة مع الدولة، و استدرار التأييد الشعبي و ملإ خزانها المعنوي الذي شارف على النضوب..و الدولة التي وجدت نفسها في موضع اتهام و تحجمت هوامش مناوراتها الأمنية..اختارت الانحناء للعاصفة و إبداع طرق متنوعة لامتصاص الصدمة و تكييف المرحلة حتى تبقى دائما هي المتحكمة و هي صاحبة المبادرة
يفرح الحاقدون المتضررون من الماضي بالليونة التي أبدتها الدولة مع متغير الثورات الإقليمية، وهم لم يتوقعوا هذه الليونة أو لم يريدوا ذلك لأن ذلك ينزع عنهم السلاح البكائي ، و عوض أن يبدؤوا من الزمن الراهن يصرون على بدإ النضال بأثر رجعي من الستينات و السبعينات، و الآخرون يبدؤون زمنهم بأبعد بكثير و يعودون إالى زمن الخارقين و الأولياء المعصومين
النزعات الماضوية مفسرة بسطوة الإيديولوجية والإعتياد على وسائل النضال البدائية ، وإدمان الخطاب السياسي السهل القائم على ملإ فراغات العجز و الإعتياد بأدبيات الإضطهاد و الخطر و الكارثة، تصر الماضوية على عدم رؤية الواقع في زمنه المتحول الحالي، لأن الإعتراف بالمكتسبات و الإيجابيات سيفقدها سلاح البكاء الذي تعتمد عليه،
إذا كان هذا التعاطي الماضوي مع المستجدات يحمل الشرط الذاتي لهذه الأحزاب و التنظيمات المنهكة، إلا أنه يرهن أجيالا جديدة ،هي سيدة المرحلة الآن، بصراعات الماضي ، و تشركها في أزمتها الذاتية و تهدر طاقاتها في معارك ليست بالضرورة معاركها، من هنا طرحت ضرورة استقلال النضال الحالي عن أبطال و أفكار الماضي لأنه نضال جيل شبابي يعبر عن زمنه الحالي و يمتلك القوة المطلبية التي لا تمتلكها هاته الأحزاب و التنظيمات، و لا يحمل عاهاتها و لا انهزاماتها، و يخترق مساحة الفراغ بالإحراج اللازم للجميع، بما في ذلك الدولة
لكن مع الأسف لم يستطع الشباب في المغرب الإحتفاظ بزخم استقلالية و اعتبرها، بسذاجة و طيبوبة، نقطة ضعف في أدائه النضالي كان وراء فتحه الأبواب مشرعة أمام كائنات محترفة لم تفلت الفرصة المجانية لفك العزلة عنها و تجديد ترسانتها و أملها في الحياة
لابد أن نعي أن الدولة حاصل عندها الوعي بفداحة الصراعات على السلطة و انعاكسه السلبي على الزمن الضائع و الطاقة المخسورة، وواضح الجهد الكبير الذي قامت به لإقناع الأطراف السياسية المعتدلة بمشروعية نظام الحكم و تحويل مجال التجاذب الى الفعالية السياسية و التنمية الإجتماعية و الإقتصادية عن طريق تفعيل المصالحة و إتاحة الفرصة بالمشاركة في الحكم و السماح بهامش أكبر من الحرية ، لكن اكتشف الجميع حقيقة الفراغ السياسي الناجم عن الإرهاق السياسي، هذا الفراغ سيؤدي الى بروز الخطر الظلامي من جهة ، و سيسمح من جهة أخرى للأعيان و التقنوقراط من الإستفادة من هذا الفراغ
هذه الاطراف المتشبعة بنفسية الكارثة المرهونة بلاشعورها المضطهد، العاجزة عن التحول، تستعمل أسلوب النضال المغامر، و التأزيم القائل "علي و على أعدائي"، وهي تعتقد أن تأييد المجتمع مضمون، و تستفيد من مداهنة المجتمع بعدم تحميله نصيبه من المسؤولية عن التخلف، وتقوم بتلميع استسلامه حتى تبقي فزاعتها منصوبة في مواجهة السلطة تقول لها : حذاري إني سأوقظ البعبع. ..لكنها تكتشف متأخرة أننا لم نعد في القرن الماضي، و أن المجتمع تغير و لم يعد يقبل أن يستعمل كبعبع في مواجهة الدولة، و صمته لا يعني في جميع الأحوال استسلاما لطروحات الماضي و لا قبولا باستعماله كوقود لإشعال النيران..بقدر ما يعني عدم وجود بدائل حقيقية تستجيب لحاجياته الكاملة، بما في ذلك حاجته، أي المجتمع، للإستقرار، هكذا نفسر مصطلحات : بلطجية و عمالة و خيانة..وباقي المصطلحات الملينة من فكر التكفير و فكر ستالين، مصطلحات تفسر حالة الانزعاج من المجتمع الواعي الذي قرر أن يتكلم بنفسه عن نفسه و يصفق على الماضويين باب سجنهم الذي ارتضوه لأنفسهم
رشيد عنتيد
24.04.2011